تتطاير الأسئلة كثيرة ومن كل جانب، حيال المشهد الدامي في سوريا خاصة، وفي حلب على وجه أخصّ، لتجتمع في سؤال واحد كبير: لماذا يؤيد فلسطينيون (أفرادا وأحزابا) بشار الأسد، في وقت أصبح الأعمى يرى أن الأسد ونظامه عبارة عن طاغوت دموي، استجلب قوى خارجية لذبح أبناء شعبه؟
هذه محاولة لقراءة حقيقة الأبعاد الفكرية والنفسية للأحزاب والأفراد، في اتخاذهم موقف المدافع المستميت عن نظام قمعي يستخدم كل وسيلة (غير شريفة) للبقاء على قيد الحياة أطول مدة ممكنة.
في محاولتنا استنباط أسباب الموقف، الذي لا يتناسب – افتراضا- مع طبيعة الشعب الفلسطيني، ولا مع مواقفه التاريخية المستقاة من معاناته من القمع والاحتلال وسفك دماء أبنائه، وفي الأساس من إيمانه العميق بحق الشعوب أن تتحرر، كما هو الأمر بالنسبة له، ثم من خلفيته ببعدها العربي الأصيل وانتمائه الإسلامي، فإننا نجد حشدا من الأسباب نلخصها فيما يلي:
أولا: إن أجندة الأحزاب العلمانية (على اختلاف توجهاتها؛ وطنية كانت أو قومية أو يسارية، ليبرالية أو شيوعية...) هي أجندة مضطربة، غير واضحة المعالم، وغير مستقرة، كثيرة التقلب، أشبه ما تكون بحالة الطقس، تبعا للمصلحة الحزبية، لا انطلاقا من موقف إيديولوجي أصيل وثابت. هذا مع التأكيد على التفاوت بينها في هذا الاضطراب والتقلب.
ثانيا: عداء العلمانيين أفرادا وأحزابا للإسلام كدين جامع، وللإسلاميين كتيار موازٍ على الساحة، يدفعهم إلى اتخاذ مواقف مناهضة لكل مظهر إسلامي، ومن ثم إلى رفض كل موقف للتيار الإسلامي من أي حدث، خاصة إذا كان حدثا مفصليا، كثورة الشعب السوري، على سبيل المثال، ومطالبته بالحرية والانعتاق من حكم دكتاتوري أولا، وطائفي ثانيا، وهو في ذات الوقت حكم أقلية ثالثا. ولهذا تراهم يناقضون أنفسهم في مواقفهم التي يعبرون عنها. فهم يعلنون أنهم مع حرية الشعوب في اختيار حكامها، لكنهم مع بشار الأسد. وهم ضد التدخل الأجنبي في سوريا (مثلا)، لكنهم يدعمون استدعاء بشار لإيران وروسيا والمليشيات المختلفة من لبنان والعراق وأفغانستان وغيرها، للتدخل في سوريا، وللمشاركة في قمع الشعب السوري.

 وهم ضد الإمبريالية الغربية (وعلى رأسها الأمريكية)، لكنهم يدعمون احتلال روسيا وإيران للأراضي السورية، ويطالبون المجتمع الدولي (الإمبريالي طبعا) بأخذ دوره في الأزمة السورية، ويهاجمون الأمم المتحدة كلما قصرت في اتخاذ قرارات بهذا الشأن. وهم ضد الطائفية، لكنهم يدعمون نظاما طائفيا، يرأسه طائفي ، ويدعمون نظاما طائفيا يدعم بشار الأسد، هو النظام الإيراني، ويدعمون مباركة الكنيسة الروسية لغزوة بوتين وحربه المقدسة ضد الشعب السوري، وكل هذا بحجة محاربة الإرهاب! فليهنأوا إذاً بالحرب الصليبية الجديدة، التي يخوضها هذه المرة بوتين! وهم مع روسيا وإيران في تدخلهما في الشأن السوري، لكنهم ضد تدخل تركيا. 

وهم مع خيارات الشعوب الديمقراطية، لكنهم يصفقون للأنظمة الفاشية التي تقمع خيارات شعوبها، وتسحق كل مظهر من مظاهر والانعتاق والتحرر. ويدعمون الانقلابات العسكرية على خيارات الشعوب (الديمقراطية)، كما حدث في مصر على سبيل المثال. وقبل ذلك اتخذوا موقفا معاديا لخيارات الشعب الجزائري في التسعينات، ودعموا جرائم العسكر، بحجة محاربة العنف والإرهاب (الذي اتضح لاحقا أنه من صنع العسكر ومخابراته ومخابرات فرنسا). وبين هذا وذاك رفضوا خيارات شعبهم الفلسطيني عام 2006 في الانتخابات التي أطاحت بتسلط حركة "فتح"، وفضلوا أن يدمر الشعب الفلسطيني وأن تقمع خياراته (بتحالف دولي وإقليمي ومحلي دنس) على أن يكشف هذا الشعب عن توجهاته الحقيقية ذات البعد الإسلامي.

ثالثا: إن إيمان العلمانيين (أفرادا وأحزابا) بمبدأ الوطنية تارة، والقومية تارة أخرى (والتي لم يتمكنوا حتى الآن من تعريف جوهرها وتحديد تفصيلاتها وتأطير شكلها!!) يدفعهم إلى دعم كل وسيلة تقمع كل توجه يناقض توجهاتهم، وهكذا تجدهم يُظهرون العداء لكل مظهر إسلامي، حتى في مظاهرات الشعوب التي تنشد الحرية، وتراهم يطلقون الاتهامات بالطائفية، وبالإسلام السياسي (غير الصادق والمتستر بالدين طبعا... الذي يستغل المشاعر الدينية لدى الشعوب لتحقيق الوصول إلى الحكم، ومن ثم الاستفراد به وقمع الحريات، خاصة حرية المرأة؛ مسمار جحا الذي علاه الصدأ، وكأن المرأة نصّبتهم (تنصيبا كاثوليكيا لا ينفصم) أوصياء على حريتها.

رابعا: لهذا ترى هؤلاء الناس ينساقون بسهولة (مثيرة للدهشة والغثيان) وراء الضخ الإعلامي والفكري القادم من الغرب (الذي يعادونه ... بلا هوادة!!) فيما يتعلق بمصطلحات "الإرهاب" و"التطرف" و"الاعتدال" وما شابه ذلك، دون أن يرف لهم جفن، ولا تحمر وجوههم خجلا، مع أنهم يرفضون (قولا لا فعلا) كل مواقف وسياسات الغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية (الداعمة للصهيونية!!)، فتراهم ينسخون (بغباء غير مسبوق) تصنيفات الغرب وتل أبيب للثوار (في سوريا مثلا) ما بين داعشيين وجبهة نصرة وإرهابيين وتكفيريين ومعتدلين، دون تفكير أو تمحيص، أو حتى مجرد الاطلاع على أفكار هذه الجماعات، والتعاطي معها بأسلوب علمي، بعيدا عن التنطع والتحيز وابتسار المواقف.

خامسا: وعلى هذا فإن هؤلاء لا تتحرك فيهم مشاعر الإنسانية ولا أواصر الدم (العربي ... القومي ... الإنساني) تجاه الشعب السوري الذي يذبح وتسفك دماؤه، ويسحق أطفاله ونساؤه وشيوخه، وتُدك مستشفياته ومدارسه وبيوته بقذائف الطائرات الروسية والدبابات الإيرانية والبراميل المتفجرة الأسدية، ولا تستفز ضمائرَهم مشاهد جثث الأطفال التي أنهت حياتها الأسلحة الكيماوية، ولا مشاهد اغتصاب النساء والتنكيل بالشيوخ والعاجزين، ولا موت الأطفال من البرد في مخيمات النزوح، وكأن قلوبهم قُدّت من حديد، ذلك أن الخلفية النفسية (المريضة) التي تحركهم، تدفعهم إلى اغتصاب موقف عدم التعاطف مع المدنيين، حتى لا يُتهموا بتغيير موقفهم من الأحداث، فيقعون في فخ الفاشية والسادية من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

سادسا: إن أهم وأقوى ما يحرك الكائن البشري بكونه إنسانا، ليس المبادئ السياسية، ولا الأفكار الاجتماعية والفلسفية، وغيرها من المقتضيات القاصرة (مهما كانت ذات تأثير)، وإنما يحركه البعد العقائدي (الإيماني الديني). ولأن هؤلاء (أفرادا وأحزابا) لا يملكون في برامجهم الحزبية ولا في أجنداتهم الشخصية بُعدا عقائديا تنطلق منه سياساتهم ومواقفهم فإنهم يسيرون (كالقطيع) في هذا الطريق الذي يقودهم – بالتأكيد- إلى حافة السقوط السياسي، وإلى نبذهم من قبل غالبية أبناء شعبهم، وإن زعموا أن لهم في شعبهم أنصارا.

سابعا: يتذرع هؤلاء برفضهم لممارسات تنظيم داعش (على سبيل المثال)، لكنهم في ذات الوقت يتغافلون ويغضون الطرف عن جرائم نظام الأسد ومن يدعمه من دول ومليشيات، كما يتجاهلون حقيقة أن تنظيم داعش ظهر في سوريا بعد نحو سنتين على انطلاق ثورة الشعب السوري، وأن الشعب السوري الذي خرج في مظاهرات سلمية مطالبا بالحرية لم يستخدم السلاح إلا بعد أن سُدت في وجهه كل المنافذ والسبل، ولم يبق أمامه أي خيار. 

بل يتجاهل هؤلاء أن الشعب السوري عندما خرج في آذار 2011، لم يطالب بإسقاط النظام، بل طالب بتغييرات في سياسات النظام، وبقليل من الحرية والإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد جاءت المطالبة بإسقاط النظام فقط بعد أن سالت الدماء في الطرقات أنهارا، وبعد أن انتُهكت الأعراض، وكشف النظام عن حقيقة وجهه الطائفي الفاشي السادي.

 كذلك فإن هؤلاء تجاهلوا حقيقة أن داعش إذا مارس (على الشاشات) تلك الفظائع التي رأيناها جميعا واشمأزت نفوسنا منها، فإن ممارسات نظام بشار (وقبله نظام أبيه)، وفظائع ممارسات مليشيات الدم الشيعية (بشعاراتها الطائفية)، ثم جرائم الجيش الروسي (الذي يخوض حربا مقدسة بمباركة الكنيسة الأرثوذكسية)، وعصابات ملالي إيران، هي آلاف أضعاف ما يمارسه تنظيم داعش، هذا مع علمهم (كما نعلم نحن أيضا) أن كل ما وصل إلينا من "داعش" من أفلام منتجة بتقنيات عالية بمستوى هوليوودي مذهل!!

 تضمن عمليات قتل وذبح وحرق وإغراق لأشخاص قالت إنهم مقاتلون أو عملاء أو جواسيس، ولم يثبت أنهم مارسوا القتل الجماعي للمدنيين، ولم يدكوا البيوت فوق رؤوس أهلها، ولم يشردوا 12 مليونا من أبناء الشعب السوري، هذا على حد علمي القاصر (على الأقل)، إذ لو صح هذا لما سكتت عنه وسائل الإعلام، التي "تطارد" كل حدث صغير قبل الكبير، ولما سكت هؤلاء القوم كذلك. (ملحوظة اعتراضية: الحمقى فقط هم الذين سيدّعون الآن أنني أدافع عن داعش، أو أبرر ليس فقط ممارساته بل حتى وجوده).
وكان يمكن –على سبيل المثال- فهم (الفهم لا يعني التفهم) موقف هؤلاء لو أنه اقتصر على تنظيم "داعش"، لكنهم يتخذون ذات الموقف من سائر الفصائل الثورية ذات الطابع الإسلامي، مع تفاوتها الفقهي (الفكري)، وحتى رغم خلافاتها التي وصلت حد الاقتتال، ذلك أن الرفض ليس للتنظيمات بمسمياتها وأفكارها وأفعالها، بل لمجرد كونها إسلامية المنهج. (وانظر في المقابل مثلا كيف أنهم يؤيدون حق الأكراد- في سوريا والعراق وتركيا وإيران- في الحصول على نوع من الاستقلالية أو الحكم الذاتي أو ما يشبهه، لمجرد أن هؤلاء علمانيو التوجه، ومنهم من يحمل الفكر الشيوعي، رغم أن مطالبهم عرقية بحتة، في وقت يزعم علمانيو شعبنا أنهم يمقتون العرقية (المتمثلة بالصهيونية)، لأنها نوع من أنواع العنصرية!).

ثامنا: لا يجمع هؤلاء (أفرادا وأحزابا) فكر واحد ولا منهج واحد ولا إطار حزبي واحد، ولكن يجمعهم شيء واحد هو عداؤهم للمشروع الإسلامي، وعداؤهم (التاريخي المتوارث) للإسلام دينا وعقيدة ومنهاج حياة، وهم بذلك يقفون في خندق واحد من الصهيونية والغرب بزعامة أميركا، ومع روسيا بفاشيتها، ومع أنظمة العار العربية التي تدور في فلك هؤلاء أو أولئك، ومع نظام بشار الأسد الطائفي المقيت، القائم على الاستبداد والقمع والبطش. ولا يمكن لعاقل ولا لمنصف أن يصدّق أن هؤلاء يدعمون نظام الأسد لأنه يمثل "المقاومة والممانعة"، إذ لم يثبت (بالدليل) أن هذا النظام مارس مقاومة أو ممانعة على أرض الواقع منذ سيطر على الوطن السوري بالحديد والنار، وما هذه إلا كذبة اخترعوها يتسترون وراءها لتبرير ساديّتهم. 

وأما مقولة من يقولون إن نظام الأسد احتضن المقاومة الفلسطينية، ولهذا يجب دعمه بكل ثمن، فإن العكس هو الصحيح، إذ أن نظام الأسد (الأب والابن) جعل من وجود قيادات المقاومة في أرضه صمام الأمان لبقائه في سدة الحكم، فكانت النتيجة أن المقاومة الفلسطينية – وبطريقة غير مباشرة- هي التي "أبقت النظام على قيد الحياة". 

ويجوز لنا أن نقول، في هذه الحالة، إن نظام الأسد استغل وجود المقاومة (التي لم تنفذ عملية واحدة من الأراضي السورية! يا للعجب) لتسويق نفسه تحت مسمى "المقاومة والممانعة". ولكم أن تراجعوا تاريخ جرائم نظام الأسد في لبنان، بالذات ضد أبناء شعبكم في المخيمات الفلسطينية في السبعينات من القرن الماضي.
ولعلنا نستطيع أن "نفهم" عشق أصحاب هذا التوجه (أو على الأقل غالبيتهم) للمقاومة والممانعة، من خلال مواقفهم من المقاومة الفلسطينية (المسلحة)، والتي تتقدم صفوفها حركتا حماس والجهاد الإسلامي. وإن الذي يراجع هذه المواقف سيكتشف أنهم لا "مقاومة ولا ممانعة" إلا على طريقة سلطة دايتون، والتيار الاستسلامي في حركة "فتح"، وقس عليه "مقاومة وممانعة " بشار الأسد ونظامه. 

وإذا تجاوزوا الخطوط الحمراء وتبنوا موقفا أكثر "تطرفا"، فإنها مقاومة وممانعة الجبهة الشعبية ذات الفكر الماركسي، أو "فتح" ذات الفكر العلماني، حتى لو كانت ممانعة ومقاومة مسلحة. 

بل إن "دعمهم" لهذا النوع من المقاومة والممانعة مشروط أساسا بقبول الحلول التي يرفضها غالبية أبناء الشعب الفلسطيني، وهم يفضلون – طبعا- إلغاء أية مقاومة (مسلحة) وإن كانت مشروعة، للدفاع عن النفس، ولتحقيق التحرر (الوطني) حسب تعبيراتهم، والسير في طريق "ممانعة ومقاومة" من نوع آخر، لم تعرفه شعوب الأرض قاطبة، إلا على عهدهم، حتى وهم يزعمون دعمهم لحق شعوب الأرض (الأخرى) في ذلك، أمثال "هو تشي منه" الفيتنامي، أو تشي جيفارا وفيدل كاسترو الكوبيين. فهؤلاء من حقهم استخدام الثورة والقوة المسلحة لتحقيق الحرية، أما غيرهم فلا حق لهم في هذا، وعليهم الانكفاء والقعود (والأكل والشرب والإنجاب)، وانتظار الفرج من "مقاومي وممانعي" آخر الزمان.