العيد في لوبية:
كانت جدتي تقوم بتحنية والدي وأعمامي وعماتي يوم الوقفة، والحناء عبارة عن خليط من نبتة الحناء المطحونة والمعجونة بالماء، تفرش على اليدين والقدمين، وهى دليل الفرح، أما لباس العيد فكان عبارة عن قنباز، أي الدماية أو الجلابية، وهي مفتوحة من الأمام ومخططة بلون اسمه "زند العبد". وكان الأغنياء يُلبسون أبناءهم قنبازا اسمه الروزة، مصنوع من الحرير الأبيض الناعم، أما الحذاء فكانوا يسمونه بالمشّاية مصنوعة من النعال، وكانت تشترى بالمقايضة مع صانع الأحذية من قرية شفاعمرو. وكانت المشاية تقدر بعشرين قرشا، أو ما يوازي مُدّيْن من القمح أو الشعير، حيث أنهم كانوا يبادلون بضاعتهم بما يودون شراءه، والمد يزن عشرة كغم.

كانت جدتي والنسوة في القرية يصنعن كعك العيد، وهو عبارة عن "زرد" محشو بالعجوة، وأيضا "المقرطة" وهي عجين ممدود ملفوف يحشى بالعجوة، ويصنعن حلوى تسمى "خبيصة" وهي مصنوعة من الخروب المطحون والسكر والطحين، بعد غليها تصب بالصواني ثم تقطع بعدما تبرد وتقدم للضيوف المهنئين بالعيد.

كان الجميع يستيقظون قبل الفجر فرحين بالعيد، فيستحمون وينزعون الحناء عن أيديهم وأرجلهم، وعندما ينتهي حمام العيد يرتدون ملابس العيد الجديدة. ثم يذهب أبي وعمي محمد مع جدي لأداء صلاة العيد في جامع ابن الماضي، وهو الجامع الوحيد في القرية. وكان مؤذن الجامع هو الشيخ علي صالح الشهابي، وكان هو نفسه خطيب وإمام الجامع، وقد توفي رحمه الله في مدينة حمص في التسعينات. وكان هذا الشيخ قد أنشأ في الجامع كُتّابا لتعليم الصغار القرآن ومبادئ اللغة العربية، وكان عمي محمد ووالدي من طلابه.

وبعد أداء صلاة العيد كان جدي يصطحب والدي وعمي لزيارة الأقارب؛ عمات وخاﻻت جدي، وكان والدي يتوق شوقا إلى الذهاب مع أقرانه إلى منطقة "دامية"، وهي من أملاك لوبية، فيها مغارات وعيون ماء وبساتين تعود ملكيتها إلى الشيخ محمود الحسين من عائلتنا. كانوا ينصبون المراجيح بين أشجارها بواسطة حبال ثخينة، وكانوا يلعبون لعبة اسمها المفاقسة، وهي عبارة عن بيض مسلوق يقذفونه، والذي تنكسر بيضته هو الخاسر، كل هذا كان قبل ثورة 1936.

في ذكرى استشهاد البطل عز الدين القسام
أعلن الثوار ثورتهم المشهورة عام ألف وتسعمائة وستة وثلاثين، حيث أعلن الشعب الفلسطيني الإضراب العام في شتى بقاع فلسطين وأغلقوا محلاتهم وامتنع الموظفون عن التوجه إلى وظائفهم، وكان للوبية نصيب كبير من البطوﻻت آنذاك. كان الإنكليز يطاردون الثوار ويداهمون المنازل ويخربونها بحجة البحث عن الثوار. وكان والدي ابن الثماني سنوات يركض مع الثوار ويختبئ معهم في الكروم والمغارات، وأثناء تفتيش منزل جدي إبراهيم الخليل رحمه الله وجد الجنود الإنكليز رصاصة كان والدي قد وجدها واحتفظ بها فرحا كباقي الصغار، وكان وقتها تطبيق الأحكام العرفية جائرا دون رحمة، وكان جدي مسافرا ليقايض بمحصوله في مدن حيفا والناصرة، فاعتقلت جدتي آمنة قاسم العيساوي ثلاثة أيام من أجل رصاصة وجدت بين المتاع، وكانت يومها تُرضع عمتي منيفة أو عمتي نايفة (الوالد لم يستطع أن يحدد أيا منهما، وكان ذاك في عام ألف وتسعمائة وسبعة وثلاثين).
ندما عاد جدي من سفره ذهب وسلم نفسه، واعتقل بحكم عرفي وسجن في سجن عكا وأخلي سبيل جدتي البطلة آمنة العيساوي، ووكلت جدتي محاميا للدفاع عن جدي، اسمه "حنا عصفور" من الناصرة، الذي رفض أن يتقاضى أجرا، فكان الدفاع مجانيا. وقال أثناء المرافعة عن جدي بأنه رجل كبير، ونوّه المحامي بأن هناك احتمالا كبيرا أن يكون الجندي الإنكليزي قد افتعل وضع الرصاصة بين متاع جدي.. وأخلي سبيل جدي وسط فرحة عارمة.

في عام 1938 وصلت الثورة إلى ذروتها وأجيجها، فكان الإنكليز يعتقلون أي شخص لمجرد الاشتباه به، أو أي شخص يجدون عنده قطعة حديد أو "كمّاشة" فيهدمون البيت ويعتقلون أصحابه. وكانوا ينفون المجاهدين إلى "عوجة حفير" قرب الحدود المصرية، وهذه المنطقة صحراوية وشديدة الحرارة.(يتبع)