
نعيش في هذه الأيام ذكريات مريرة ، تتصدرها دماء الشعب الفلسطيني ، الذي نذر نفسه أضحية مستمرة من أجل فلسطين ودرّة التاج فيها القدس الشريف.
من 16 أيلول 1982 إلى 13 أيلول 1993 ، والدماء بفضل المناضلين في منظمة التحرير تسيل ، بل وتنهمر بغزارة ، وكأنه منخفض يحمل رائحة الدماء وكأنه قدر الشعب الفلسطيني على يد الثوار الذين حملوا غصن الزيتون وبشّروا بالبشارة.
بفضل التنازلات الثورية في مفاوضات بيروت مع فيليب حبيب ، خرجت القوات الفلسطينية من بيروت ، تاركة خلفها المخيمات الفلسطينية دون حماية مسلحة حقيقية ، تحت مسمى الإنتصار وعدم إستطاعة الجيش الإسرائيلي القضاء على الثورة الفلسطينية وقادتها، (علما أن مذكرات القادة الإسرائيليين تقول انه في أحد المرات كان أبوعمار هدفا متاحا أمام قناص إسرائيلي ، طلب بدوره إذنا من القيادة الإسرائيلية بقنص أبوعمار ، ولكن شارون رفض ذلك ، بسبب إعتبارات دولية وإقليمية ، والذي تبين بعد ذلك انه دور ستقوم به منظمة التحرير بقيادته الفذّة والذي تمّ بعد ذلك بعشر سنوات في الاتفاقية القديسة أوسلو).
هذا الخروج غير المبارك بهذه الطريقة ، ادّت إلى إستباحة دماء الشعب الفلسطيني في كل المخيمات الفلسطينية وعلى وجه الخصوص مخيمي صبرا وشاتيلا ، حيث إستباح الجيش الإسرائيلي وبعض الملاشيات الأخرى الموالية لها في لبنان ولمدة ثلاثة أيام أرواح الرجال والشيوخ والنساء والأطفال والحوامل من الفلسطينيين وجنسيات أخرى، وبتواطئ دولي أمريكي وأوروبي، من أجل تطهير المخيمات كما يدّعون من الفدائيين الفلسطينيين ، الذين تبين فيما بعد بعدم وجود أي واحد منهم من بين شهداء فلسطين والأمة.
في مجزرة صبرا وشاتيلا هدمت البيوت على رؤوس أصحابها وهوجمت المستشفيات الفلسطينية وتم قتل الممرضين والأطباء الفلسطينيين في مجزرة كانت فيها حفر الموت التي تم دفن الأحياء فيها ، والتفنن في قتل الأهالي حيث القاتل يضحك ويشرب الخمور وكأن المجازر المنظمة ضد اليهود في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا ، يتم إعادة تمثيلها ، مع فارق أن الذي يمارس المذبحة هو ضحية الأمس وجلادها ثلة من الناطقين بالعربية ، يأتمرون بأمر الضحية الذي سقط على يد نيكولا الثاني قيصر روسيا في تسعينات القرن التاسع عشر، وتحت نظر قادة العمل الثوري الذين ما لبثوا أن مارسوا هوايتهم في التهديد والوعيد ، من اليمن وتونس وكل عواصم التآمر الغربي والعربي على حدٍّ سواء، فكانت قمة تهديدات منظمة التحرير الفلسطينية هي الإعتراف بقراري الأمم المتحدة 242 و 338، اللذان منحا إسرائيل الحق بالعيش في "حدود آمنة ومعترف بها"، وهذا بالطبع أتاح لها الإستمرار بإحتلال مناطق إستراتيجية في الضفة الغربية.
واستمر النزيف الفلسطيني بفضل قيادته الحكيمة ، واستمر الثوار تحت مسمى تمثيل الشعب الفلسطيني (منظمة التحرير الفلسطينية)، إستجداء عطف إسرائيل
من أجل الإعتراف بمنظمة التحرير وإيجاد حل عبر المفاوضات السرية المباشرة وغير المباشرة والمستمرة منذ أوائل سبعينات القرن الماضي ، إلى أن جاءت اللحظة الإسرائيلية المناسبة ، عندما سقط العراق بين فكي الكماشة العربية والدولية في عاصفة الصحراء التي إشتركت فيها (دول الممانعة) مثل سوريا الأسد وإيران الشيطان الأكبر إلى جانب أمريكا وبريطانيا وأوروبا ، وأصبح العراق العظيم مُحَيّدا عسكريا ، عندئذٍ وافقت إسرائيل على التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني بفضل مؤتمر الرباط الذي مهّد لمثل هذه اللحظة الإسرائيلية التاريخية.
وهنا كانت مجزرة أوسلو تكمل نواقص مجازر إسرائيل في فلسطين وخارجها ، وبوجود مفاوضين فلسطينيين لم يكونوا اهلا للتفاوض من أجل تحصيل حقوق الشعب الفلسطيني المضطهد منذ مئة عام ، إستطاعت إسرائيل تهميش القضايا الأساسية المهمة ، بما فيها المستوطنات، والقدس واللاجئين، تحت مسمى جلسات تفاوضية لاحقة ، تبين فيما بعد للشعب المخدوع بقيادته ، أن إتفاق أوسلو لم يرتقي إلى معاهدة او حتى إعلان مبادئ لمعاهدة سلام ، بل كان وسيلة لوضع ترتيبات لحكم مؤقت ، وإطار لمفاوضات لاحقة تنتهي بعد خمس سنوات من توقيعها باتفاق ما يضمن أمن إسرائيل ، ولا ترتقي الاتفاقية العتيدة بفلسطين إلى دولة.
وها نحن بعد ما يقارب الثلاثين عاما من إتفاقية أشرف عليها قادة غير مؤهلين ، لم يتم التقدم في الحقوق الفلسطينية قدر أنملة، فالضفة تم تقسيمها إلى ثلاث مناطق غير متجاورة، لم يتم نقل السلطة فيها بشكل جزئي في بعض مناطقها وبشكل كلي في مناطق أخرى مثل ج ، إلى سلطة رام الله.
كما توسعت المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى ملايين الوحدات السكنية خلال هذه السنوات العجاف ، وتم إستباحة الشعب الفلسطيني المقاوم ومدنه في مناطق أ و ب ناهيك عن ج ، بموجب التنسيق الأمني الذي يؤكد على التعاون الاستخباراي بين أمن السلطة والشاباك الإسرائيلي، وبالتالي يحق للجيش الإسرائيلي أن يطارد المقاومين أينما كانوا ، وبالتالي القيام بمجازر دموية في جنين ونابلس ورام الله عاصمة النخبة الثورية المنتفعة مع ذرياتها وأنسبائها من إستمرار هذا الوضع المشين ، والذي لا يليق بتاريخ الشعب الفلسطيني وتضحياته.
لقد تم زرع أوسلو منذ أن سقط الشقيري عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ، وتم التمهيد لإسقاط الحقوق الفلسطينية بالشراكة مع أبوات الثورة الذين أصبحوا من أصحاب الملايين والثروات التي ربما لا يتمتع بها الكثير من أبناء الخليج الذين يملكون الثروة النفطية .
هذا بالإضافة إلى إنقسام طرفي الوطن الفلسطيني ، تحت مسميات أصبحنا نشكك في حقيقة كل الأطراف فيها ، بين مفاوض ومستسلم فوق الطاولة ، وآخرين من تحت الطاولة يساومون ويتحالفون مع أطراف سببت للأمة الهلاك وزيادة فرقتها تحت شعار المقاومة والمتابعة.
فسلام من جزاري صبرا وشاتيلا إلى جزاري أوسلو، وتحية من قادة صهيون إلى قادة صهيون المتلفعين بديباجة المقاومة السلمية ، وعدم الإعتراف بعبثية المفاوضات التي يعلمون مسبقا وهم في أوسلو أن هذا أقصى ما يمكن الوصول اليه ، وأنهم قبلوا بهذه المهانة والذل إلى هذه الدرجة وهم راضون ومقتنعون أنهم إنما يمضون وقتا لا من أجل التحرير وإنما من أجل جمع الأموال وملئ الجيوب ، وهم بذلك إنما يمارسون وأد الشعب الفلسطيني ، كما كان يفعل عرب الجاهلية في وأد البنات ، إلا أن عرب الجاهلية ملكوا في وأدهم للبنات حِساًّ من العار المغلف بالنخوة والشرف ،إن وقعت إبنتهم في أسر أعدائهم ، أما هم فيقومون بما يقومون فيه من أجل مكتسباتهم مُفرّطين بشرف دماء المناضلين والمناضلات ، فأي عار أعظم من عار التفريط في أرض وشرف فلسطين
الا بئس الحكم والقناعة التي وصلوا إليها، وكما قال تعالى:
(...ألا ساء ما يحكمون).
فسلام على أرواح كل المقاومين من ثورة يافا عام 1921 إلى مجازر جنين ونابلس وغزة.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
16/09/2022 11:43