شكلت القضية الفلسطينية محوراً هاماً ارتكزت عليه السياسة التركية الحالية في صعودها الملحوظ في المنطقة، وكان هذا نابعاً عن تغيرات حقيقية أصابت شكل الدولة التركية وفكرها، وتعبيراً حقيقياً عن نبض الشارع التركي الذي عاش مظلومية الشعب الفلسطيني ومعاناته، وكانت عودة تركيا لمنطقة الشرق بطرقها لباب القضية الفلسطينية وسعيها لمواجهة السلوك الصهيوني في المنطقة.الجمهورية التركية التي بنيت على حطام الخلافة العثمانية أريد لها أن تظل تحت الوصاية الغربية، وظلت ضحية لجملة من خطابات الترهيب، وعانت لسنوات طوال من صراع على الهوية استهدف إقصائها عن عمقها الإسلامي، وكانت القضية الفلسطينية من أكثر المتضررين من هذا الصراع، الذي لطالما كانت الغلبة فيه للتيار الغربي والذي كان يرفع شعاراً خالداً يقول فيه " لتظل الكعبة دائمة للعرب، ونحن تكفينا تشانكيا " أي يكفينا قصر الرئاسة ومقام أتاتورك .فلسطين بين اليسار والإسلاميينكانت تركيا أول دولة إسلامية اعترفت بالكيان الصهيوني عام 1949م، على الرغم من رفضها قبل عامين من ذلك لقرار التقسيم في الأمم المتحدة، قرار تركيا بالاعتراف بالكيان الصهيوني كان نابعاَ عن إيمان الدولة في ذلك الوقت بضرورة الحراك بالشكل الذي يناسب القوى الغربية وبالذي تراه الولايات المتحدة الأمريكية مناسباً، فكانت الحرب الباردة مسيطرة على الواقع السياسي،وكانت تركيا ترى في الاتحاد السوفيتي عدواً لا بد من الحذر منه وهذا السبب كان دافعاً لها لدخول الناتو أيضاً فيما بعد .القضية الفلسطينية في ذلك الوقت كان يتصدرها اليساريين ممن كانوا يقاومون " الإمبريالية "، ودفعهم إهتمامهم بالقضية لإرسال مقاتلين لمواجهة " اسرائيل " وذكر فائق بولوت أحد المفكرين والمقاتلين اليساريين الأتراك الذين أصيبوا في معارك نهر البارد بأن اليسار التركي أرسل 3 آلاف مقاتل لمواجهة " اسرائيل "، ويذكر أن القضية الفلسطينية قد تركت أثراً كبيراً على فكر وبنية اليسار التركي في ذلك الوقت .هذا المشهد جعل القضية الفلسطينية وكأنها مادة خاصة بأدبيات اليسار داخل تركيا، ومع بروز الحركة الإسلامية في فلسطين وخروج الشيخ أحمد ياسين والجيل الذي رباه إلى الشوارع لمواجهة الإحتلال الصهيوني، بدأ الإسلاميون الأتراك يستشعرون قرب القضية منهم، وأخذ فهمهم للقضية يتغير حسبما ما أفاد به عدد من المفكرين والناشطين الإسلاميين الأتراك في أحدى الندوات التي تمت في اسطنبول عام 2012م وكان من ضمن المشاركين فيها في ذلك الوقت بولنت يلدرم وعمر فاروق وأحمد أغرقجة .وكان للإسلاميين أن تولوا زمام مبادرة القضية الفلسطينية فيما بعد فأخذوا يتحدثون باسمها، ويثقفون الناس وربطوا أدبياتهم بها، وكان نشاطهم نابعاً عن حراك إجتماعي ضمن إطار الجمعيات والمؤسسات التي شيدوها، ومن ثم انتقلوا إلى الساحة السياسية وظلوا متعلقين بتلك المبادىء، وحولوها أيضاً إلى إطار أكاديمي كما فعل أحمد داود أوغلو وبعض المثقفين الإسلاميين الذين كتبوا عن القضية الفلسطينية وخصصوا لها أعمدة رأي ومساحات واسعة في الجرائد وبعض القنوات التلفزيونية.التغير في مواقف الدولةالدولة التركية التي انشغلت بمشاكلها الداخلية والخارجية مع دخولها للناتو بدأت بعض الأصوات تخرج تسائلها عن مواقفها وحراكها، الذي جعل منها ممثلاً للغرب في منطقة الشرق الأوسط، إلا أن الأزمة التي حصلت مع قبرص والخطاب الشهير للرئيس الأميركي ليندون جونسون سنة 1964 والذي حذر فيه تركيا من التدخل في قبرص وماتبع ذلك من ترك تركيا لوحدها في الأمم المتحدة، دفع تركيا إلى أخذ مواقف أكثر إتزاناً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية .انعكس التغير في الموقف التركي في رفضها السماح لقاعدة إنجيرلك العسكرية الموجودة في جنوب تركيا بدعم القوات الاسرائيلية أثناء حرب الأيام الستة عام 1967م، ومن ثم استخدمت تركيا صوتها في الأمم المتحدة عام 1969 لصالح القضية الفلسطينية حيث صدر عن الجمعية العامة قرار 2535 الذي تحدثت به، بصورة رسمية عن " شعب فلسطين" وحقوقه غير القابلة للتصرف، واقرت بان "مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ناشئة عن انكار حقوقهم غير القابلة للتصرف"، واعربت "عن قلقها واستنكارها لممارسات دولة اسرائيل تجاه هذا الشعب وحقوقه".وبدأت العلاقات التركية الفلسطينية تأخذ طابعاً رسمياً مع تفعيل تركيا لعلاقاتها مع منظمة التحرير عام 1975م. وأبدت تركيا اعترافها بالدولة الفلسطينية التي أعلن عنها عرفات في الـ 15 من نوفمبر عام 1988م .وأولت تركيا إهتماماً كبيراً بالشأن الفلسطيني مع قيام السلطة الفلسطينية عام 1994م حيث بذلت جهود واسعة لتحسين الظرف المعيشي للمواطنيين الفلسطينيين وجرت لقاءات عدة بين الطرف الفلسطيني والتركي في هذا الأطار، وبلغت قيمة المساعدات التي قدمتها تركيا للشعب الفلسطيني منذ عام 1995 إلى يومنا هذا 150 مليون دولار، بالإضافة لجهود تركيا ضمن المؤسسات الدولية مثل الأونروا ومنظمة الصحة العالمية، وعكفت تركيا على توسيع جهودها في هذا المجال من خلال إنشاء مكتب لهيئة الـ TIKA  في رام الله .أردوغان وانتصاره للمبدأالتيار الإسلامي الذي انحدر منه أردوغان كان الأقرب لقضايا المسلمين وأكثرهم تأثراً بها، حيث ترعرع  أردوغان في أكناف حركة الملي قروش التي أسسها الأستاذ أربكان، وكان منذ شبابه حريصاً على التعريف بفلسطين والعمل لأجلها فيقول بولنت يلدرم - رئيس جمعية الـ ihh  والذي كان صديقاً شخصياً لأردوغان في شبابه " كنا نطرق أبواب البيوت في اسطنبول لنعرف بالقضية الفلسطينية" .حركة الملي قروش شكلت الخزان البشري الذي يمد القضية الفلسطيني بمحافظيها في تركيا، حيث شكلت الحركة بإنطلاقها تمرداً على التيار الإسلامي التقليدي نفسه في تركيا، والذي كان يفضل النأي بنفسه عن السياسة، الحركة التي استقت مبادئها وفهمهما الأساسي في البداية من كتابات مفكري جماعة الإخوان المسلمين وغيرهم من قادة الفكر الإسلامي مثل أبوالأعلى المودودي وعلي شريعتي، وضعت على سلم أولوياتها هزيمة المشروع الصهيوني والانتصار لفلسطين والقضية العادلة هنالك .اربكان الذي يعد مهندس السياسة الإسلامية في تركيا وأستاذ أردوغان تم الإنقلاب عليه بعد أن شارك في " ليلة القدس " التي تمت في مدينة قونيا، وصرح أحد قادة الإنقلاب فيما بعد لأحدى الصحف الغربية بأن مخاوفهم لم تكن من التوجهات الإسلامية لأربكان بالدرجة الأولى وإنما من ما يمكن أن يحمله من خطر على اسرائيل .حينما وصل حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا لم يظهر الحزب سياسة مختلفة كثيراً عن سابقيه فيما يتعلق بالموقف السياسي الرسمي من القضية الفلسطينية، فيؤكد الحزب على إيمانه بمشروع حل الدولتين ضمن إطار قرارات الأمم المتحدة " 242،33،1397،1515 " بالإضافة لما نصت عليه خارطة الطريق والمبادرة العربية، مع تأكيد الدولة التركية على ضرورة أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المستقبلية، وساهمت تركيا في محاولة تعزيز حضور ورفع كفاءة مؤسسات السلطة الوطنية لتكون مؤسسات للدولة .على الرغم من عدم تغير رؤية الدولة التركية للحل النهائي، إلا أن تركيا برئاسة أردوغان قدمت مواقف إنسانية سياسية متقدمة وخاصة فيما يتعلق بالحصار والحرب على غزة، حيث كان صوت الأتراك مرتفعاً وبارزاً مقارنة بغيرهم، وطالب أردوغان منذ صدور نتائج الانتخابات البرلمانية في فلسطين بقبول حركة حماس وندد بمن يصفونها بالإرهاب .أردوغان الذي اعتبر " اسرائيل " دولة تمارس الإرهاب استطاع أن يوجه لها ضربات قاسية، وذلك بتحطيمه لمسار العلاقات الذي كان يكبر بشكل كبير مع الدولة التركية والشعب التركي، حيث انخفض عدد السياح الصهاينة ممن كانوا يمرون بتركيا للاستجمام من 300،000 إلى 62.000 وتم تقييد حركة الاستخبارات مع " اسرائيل " بإعادة ضبط وتأهيل جهاز الاستخبارات التركية .وبرز أردوغان كقائد ملهم عند الشعوب العربية والأتراك بسبب مواقفه التي عبر فيها عن انتصاره لقضية فلسطين والقضايا الإنسانية الأخرى، وخاصة حينما اعترض على بيرس في مؤتمر دافوس .