
بعد سبعة وخمسون عاما من قيام منظمة التحرير الفلسطينية ، يجد الشعب الفلسطيني نفسه في المرحلة ما دون الصفر ، وذلك بفضل القيادة الفلسطينية التي تتربع اليوم على رأس هرم المنظمة التي تم تجميدها وتجييرها الى ما عُرف بالسلطة الوطنية الفلسطينية التي كانت نتاج عملية أوسلو وغزة وأريحا أوّلا و آخراً.
هذه المنظمة التي خرجت من رحم الشعب الفلسطيني عام 1964 ، بعد سقوط أكثر من نصف فلسطين التاريخية بيد العدو الصهيوني وبفضل الخيانات العربية لفلسطين التاريخ والتضحية والنضال ، جاءت لتحمل الكفاح المسلح كخط واحد و وحيد ومشروع من اجل تحرير فلسطين ، وكل فلسطين من رأس الناقورة الى أم الرشراش ، ومن البحر الى النهر ، والتي سرعان ما تم إنقلاب بوصلة هذا الهدف المقدس بنسبة 180 درجة ، بحيث إنتقلت المنظمة من الكفاح المسلح الى البحث عن تسوية سياسية ضمن مشاريع الحكم الذاتي ، وهي الرؤية المدعومة من قيادات عربية تم تعيينها بإرادة الماسون الأعظم على رأس أقاليم تم بالأصل إقتطاعها من جوارها العربي ، في محاولة لتقسيم المقسوم أصلا منذ سايكس بيكو ووعد بلفور ومؤتمر باريس وسان ريمو.
وبفضل التنازلات التي سطّرها أبوات منظمة التحرير ، تحولت هذه المنظمة من التحرير الى التسليم والإستسلام ، لصالح سلطة أُطلِقَ عليه تشتيتا للعقول بالوطنية الفلسطينية ، ودخلت بعد ذلك المنظمة التي ضمّت معظم فصائل النضال الفلسطيني، الى مرحلة التهميش لدورها وأهدافها التي إلتَفّ حولها أبناء الشعب الفلسطيني ، لصالح وهم قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ، وذلك تحت حِراب العدو الصهيوني ، المدعومة بالتنسيق الأمني (التخريب والتشتيت لكل القوى الوطنية الشريفة).
هذه المنظمة التي شكلت فتح الطلقة الأولى فيها نحو العدو المحتل للارض المقدّسة ، والتي شكلت عملياتها القتالية الفدائية داخل الأرض المحتلة عنوانا لكل وطني شريف يبحث عن تحرير وطنه ، ومدرسة للعمل الوطني المنظم ، بالرغم من التشتت في أقطار العرب وما تبع ذلك من حسابات سياسية وعسكرية خاطئة ، هي التي أدخلت تعديلات على بنود " الميثاق القومي " التي كانت تُعَرّف فلسطين بأنها وطن عربي ، الى انها " وطن الشعب العربي الفلسطيني"، وأنه صاحب الحق الأصيل في تحرير وإسترداد وطنه ، والتأكيد على أن (منظمة التحرير )، مسؤولة عن حركة الشعب الفلسطيني في نضاله من اجل إسترداد وطنه وتحريره والعودة اليه وممارسة حق تقرير المصير فيه ، فالحديث هنا عن كل فلسطين ، وليس عن 5% من فلسطين وبشروط أمنية صهيونية مشددة.
هذا التصور من أجل تحرير فلسطين ، إنتقل الى طرح تهيأة الشعب الفلسطيني والعربي والإسلامي ، الى فكرة التعايش بين الشعبين ، وأصبح الشعار هو الدولة الفلسطينية الديموقراطية ، والتي ستضمن بعد قيامها حق جميع من يسكن فيها مهما كانت لغته ومذهبه ، وكأن القائمين على منظمة التحرير منذ عام 1971, يتجهون نحو المفاوضات والحل السلمي ، وترسخ هذا الأمر عام 1974 ، عندما تبنى المجلس الوطني الفلسطيني ، في دورته الثانية عشرة التي إنعقدت في القاهرة ، البرنامج السياسي المرحلي لمنظمة التحرير ، الذي نص على إقامة " سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة فوق الأراضي التي سيندحر عنها الإحتلال " ، وهنا نتبين أن منظمة التحرير تتجه نحو إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية ، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة ، الى جانب إسرائيل ، وهو الشعار الذي تم إقراره في دورة عام 1977.
ومع التقدم في السنوات وفشل كامب ديفيد ، اخذت منظمة التحرير تتحول الى جهاز حكومي بيروقراطي ، يتمتع القائمون عليه بإمتيازات مادية ومجتمعية وسياسية ، بل وبدت أنها مكان للرعاية الإجتماعية وهيئة تشغيل للعاطلين عن العمل ، وكان الفدائيون قد بدأوا يتحولون الى جيش نظامي واسلحة ثقيلة وإرهاصات دولة ، ولم يأخذوا الدروس من التجربة الأردنية ، ليقعوا في نفس أخطاء التجربة اللبنانية والبقية معروفة.
وهنا كانت منظمة التحرير ، تعيش حالة ضعف سياسي بفضل الإنقسامات داخل فتح ، ورفض الفصائل الفلسطينية لأي تسوية فلسطينية تضمن تحقيق المشروع الوطني الفلسطيني كاملا على ارض فلسطين التاريخية ، بالإضافة الى سحب الحبال من يد منظمة التحرير لصالح المنتفضين في الإنتفاضة المباركة التي اخذت تفرض معادلات جديدة وبقوة ، وتعيد البوصلة الى الطريق الصحيح .
ثم كانت الخطيئة بالإعلان عن الإستقلال في الجزائر ، ثم قيام الدولة الفلسطينية ، وفي هذا الإعلان تم الإعلان عن موافقة منظمة التحرير على قرار تقسيم فلسطين رقم 181، ورفضه للإرهاب بكل أشكاله، بالطبع مع ديباجة حق الشعوب في مقاومة الإحتلال الأجنبي.
في اعقاب احداث الخليج ومقتل صخرتين من صخور المقاومة الفلسطينية أبو إياد و أبوجهاد ونخبة من المجاهدين بمعيتهما ، على يد الموساد الإسرائيلي وعملائهم داخل وخارج منظمة التحرير ، مضت قيادة منظمة التحرير الى إتفاق أوسلو بسعي حثيث من الذين يترأسون السلطة الفلسطينية اليوم ، وضمن مفهوم "غزة و اريحا أوّلا " ، في تنازلات قدّمها المتربعون على عرش السلطة تحت إسم منظمة التحرير ، وهي بريئة من كل أفعالهم وأفكارهم التي وضعوها وهم يعتلون صهوة منظمة التحرير ، ويتخلصون من كل من يعوّق تنازلاتهم الخيانية لآمال الشعب الفلسطيني أينما كان.
فماذا حدث بعد ذلك ؟
لم تفلح كل التنازلات على تغيير الفكر الصهيوني ، وإنما خضعت قيادات أوسلو للفكر الأمني الصهيوني ، وأصبحت السلطة أداة أمنية بيد الموساد الإسرائيلي ، بل وتجاوز المتسلطون على رقاب الشعب الفلسطيني كل خط احمر ، حتى أصبح التنسيق الأمني مع اسرائيل هو أمر مقدس ، وكل من يحاول المقاومة هو إرهابي ، فإما أن يتم إعتقاله في زنازين السلطة ، أو يُقتل ، او يتم تسليمه للموساد الإسرائيلي سواء كان ذلك باليد ، او بغض النظر عن عمليات قوات النخبة الإسرائيلية داخل ما يعرف بمناطق السلطة ، حيث تقوم هذه القوة بإعتقال من تريد إعتقاله ، وقتل من تريد قتله كما حدث قبل ايام من تصفية لثلاثة من المقاومين الفلسطينيين في منطقة المخفية داخل نابلس بعد أن أمطرتهم بأكثر من ثمانين طلقة أخرجت أدمغتهم من رؤوسهم ، وكل ذلك بفضل التنسيق الأمني ، واثناء إنعقاد المجلس المركزي لقيادة اوسلو ، دون حتى أخذ اي إعتبار الى ان الذين تصفيتهم هم جزء اصيل من حركة فتح التي تتربع على عرش السلطة والمجلس المركزي ، والمجلس الوطني ، وكل الأجهزة الأمنية بكل مسمياتها وتفاصيلها.
والسؤال هنا
لماذا عندما تم تشييع جنازة قائد من حماس في مخيم جنين وخرجت جنين عن بكرة ابيها في تشييع هذا القائد وكانت قوة الفصائل وعلى راسها حركة حماس قد أظهرت عزما ووجودا في تشييع هذه الجنازة ، تم إصدار قرار من راس السلطة على تغيير كافة القيادات الأمنية في جنين ، على اساس هذا الظهور القوي لحركة حماس ، ولم يتم إعتقال أفرادها ، وفي المقابل يدخل افراد من الجيش الإسرائيلي الى نابلس كما يدخل دائما الى غيرها ، ويتم تصفية مقاومين تابعين للحركة الأم فتح ، وبقية الفصائل ، ولم تتحرك قيادة السلطة الاب الروحي لمنظمة التحرير من اجل إحداث تغييرات امنية فلسطينية على هذا التقصير ، إن جاز لنا ان نقول عنه كذلك ، في ظل التنسيق الامني المقدس الذي يشير اليه دائما سيادة الرئيس .
ثم يخرج علينا السيد عزام الأحمد كناطق عن قرارات المركزي ، بانه تقرر توقيف التنسيق الأمني ، وما تم الإتفاق عليه من تبادلية الواجبات السياسية مع اسرائيل في أوسلو ، في كلام ممجوج تم تكراره مرات عديدة ، ولا يساوي قيمة الحبر الذي كتبت فيه هذه الملهيات للشعب الفلسطيني.
هذا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع ، ولا يتناسب مع طبيعة خطاب ابومازن ورفضه لثوابت منظمة التحرير القائمة على الكفاح المسلح من اجل تحرير كل الأرض الفلسطينية ، وليس مركزا للحكم هنا ، وكازينو هناك ، واستثمارات لملأ جيوب المنتفعين من اصحاب اللحى والعمائم ، وكذلك المتربعين على إقتصاد الشعب الفلسطيني من ابناء الأبوات ، وابناء ابناء الأبوات .
إن تحييد منظمة التحرير الفلسطينية عما قامت عليه من تحرير للأرض والإنسان ، لصالح مفاوضات عبثية منذ اكثر من ستة وعشرين عاما وتحت رعاية المخابرات الأمريكية واللوبي الصهيوني وأعوانهم من الذي باعوا اوطانهم بثمن بخس ، لم تفضِ الا الى أمر واحد وهو تكريس الإحتلال الإسرائيلي ، وقضم ما تبقى من فلسطين بين مستوطنة وإحتياجات أمنية ، وحتى قيادات كنا نظنها وطنية.
لم يتبقى بفضل قيادة السلطة اليوم من منظمة التحرير الفلسطينية إلا القارمة التي تحمل إسمها و الموضوعة على مقرها ، فلا قيادات بقيت ، ولا اصحاب ثوابت إستمروا بعد أن تم تغييبهم او موتهم .
لا بد من العودة الى جذور الفتح القديم في قوله تعالى :
(إنا فتحنا لك فتحا مبينا )صدق الله العظيم
فلا يصلح الأمر إلا بما صلُحَ أوله ، وهو نهج الله ورسوله .
فاستبشروا خيرا.
11/02/2022 16:18