قالوا قديمًا: العقل السّليم في الجسم السليم، وقالوا: العلم في الصّغر كالنّقش في الحجر، عبارات تحمل دلالات النّشاط والحيويّة والاجتهاد والصبر...صفات تُعين حاملها على بناء وصقل شخصيته حتى يتكيف مع البيئة التي يعيش فيها، لقد استمر طلاب العلم على اختلاف مشاربهم يبحثون عن تلك المعاني، التي من شأنها ترسيخ القوة والحكمة، وهذا ليس غريبًا عن المجتمع الفلسطينيّ الذي يعيش خصوصية الصّمود والصّبر والاجتهاد والتّضحية...

وهذا إنّما يحتاج إلى تكامل في الأدوار التّربويّة والتّعليميّة، تبدأ من أسرة متعاونة إلى مدرسة متفاعلة وصولًا لمجتمع قادر على دمج الطاقات وتعزيزها وتطويرها بما يتناغم واحتياجاته.

    ولما كانت المدرسة جزءاًمهماًفي أي عملية بنائيّة، فإنّ ذلك يقتضي توفير بيئة ماديّة وبشريّة جاذبة لأي نشاط أو فعالية أو موقف تربويّ وتعليميّ، ومن خلال المقابلات التي أجريتها مع طالبتين من الصّف الثّالث والثّامن الأساسيّ وطالب من الصّف الحادي عشر من المرحلة الثّانويّة، فقد تبين أنّ العينة تواجه العديد من التّحديات والمعيقات التي تحدّ من تكيفهم معبيئاتهم المدرسيّة، تلك التّحديات، منها ما يتصل بالبيئة الماديّة غير المناسبة، من: قلة المرافق، وضيق الساحات التي يتاح فيها ممارسة الهوايات الطلابيّة الرّياضيّة منها والثّقافيّة، إلى جانب موقع المدرسة غير المناسب، بالقرب من الشّارع الرّئيس، وسط التّجمع السّكانيّ، الأمر الذي يزيد من معاناة الطالبة في التنقل من وإلى المدرسة، وتحديدًا في ساعات الذّروة، كما أنّ التّلوث الضّوضائيّ يشكّل إعاقة حقيقية لتبادل ونقل الخبرات المعرفيّة، التي يمكن أن يتلقاها الطالب من المعلم أو حتى من الطالب، وفي ضوء ذلك عبّرت الطلبة عن استيائهم من تلك الظّروف التي تحول دون التّكيف المناسب مع بيئاتهم المدرسيّة.

    كما أشارت العينة الطلابيّة إلى وجود معيقات وتحديات بشريّة كثيرة تتصل في كثير منها: بمعلم/ة قليل الخبرة، الأمر الذي ينتج عنه علاقات غير متزنة بين المعلم والطلبة، سواء كان ذلك في نقل المعارف والمهارات أو في علاج المشاكل السّلوكيّة، أضف إلى ذلك انتشار ظواهر التّمييز والمزاجية في التّعامل مع بعض الطلبة، انطلاقًا من مواقف سلوكيّة سابقة، الأمر الذي أشار إليه أحد المشاركين، فهو يشعر بعدم ارتياح من هذه الظواهر التي تلامس مشاعره ووجدانه، مؤكدًا على أنّ استمرار مثل تلك الظواهر قد يحمل في طياته العديد من المخرجات غير المسؤولة من: عنف، وتنمر، وتأخر صباحيّ، وصولًا إلى التّسرب المبكر.

     وقد ذهب المشاركون إلى أن التّحديات البشريّة تتصل أيضًا بدرجة الالتزام بالقوانين التي من شأنها تعزيز معاني الانضباط والنّظام، فضلًا عن ظهور بعض الظواهر الصّحيّة غير المناسبة، حيث النّظافة الشّخصيّة والصّفيّة والمدرسيّة، وقد عزز من تلك الحالة الصحيّة الخوف من المرض المستشري في العالم منذ العام المنصرم(كورونا)، حيث عبّرت العينة عن حجم القلق والتّوتر والخوف الذي يمرون به بسبب هذه الجائحة وما تحمل من تداعيات، سواءٌ كان ذلك على الصّعيد الصحيّ أو على الصّعيد التّعليميّ والتّربويّ، حيث العطل المستمرة، والابتعاد عن المدرسة لأسابيع وشهور، أو على الصّعيد التّكنولوجيّ، حيث التّعلم عن بعد وما يحمل من نتائج ومخرجات قد لا تتناسب واحتياجات الطلبة.

    لم تقتصر التّحديات البشريّة على المعلم/ة والطالب/ة، بل امتدت لتشمل الأسرة ومستوى تفاعلها مع المدرسة، حيث أكدت العينة ضعف تلك العلاقة في ظلّ ضعف التواصل بين الأطراف التّربويّة مع زيادة الفجوة التي خلّفت حالة من أزمة الثّقة، وهذا انعكس على المشاركة الفاعلة في الأنشطة والفعاليات وعلى المبادرات الخلًاقة والهادفة إلى التّشبيك الحقيقي بين تلك الأطراف المؤثرة في تطوير أي خطة أو مشهد تربويّ.

     كذلك امتدت التّحديات لتشمل الإدارة المدرسيّة، التي توصف في أكثرها بالتّقليديّة، فهي لا تزال تمارس مهام الإدارة في إطار من البيروقراطيّة والدّكتاتوريّة في اتخاذ القرارات بعيدًا عن التّشاركيّة أو التّشاوريّة، الأمر الذي انعكس على توفير بيئة مدرسية روتينيّة غير داعمة لأي تغيير: سواء كان في مجال الأساليب والاستراتيجيات التّربويّة، أو في مجال الأنشطة والفعاليات، حيث عبّرت العينة عن خطورة هذا التّحدي لما له من تأثير على الطالبة والبيئة وحتى المجتمع.

    وقد ذهبت العينة إلى التّعبير عن معاني الأمل والتّعاون الإيجابيّ بين الأطراف التّعليميّة والتّربويّة حتى يتاح لهذا الجيل نشر الرّسالة التّربويّة والحضاريّة التي وجدت المدرسة لتعزيزها وترسيخها، فهناك رغبة في التّغيير والتّطور نحو الأفضل في مجال العلاقات مع المحيط التّعليميّ(مدير، معلم، طالب..)، الأمر الذي ينعكس على الأساليب والاستراتيجيات التّعليميّة، كما ينعكس بالضرورة على درجة الثّقة بين كافة الأطراف التّربويّة، وهذا يعيد المدرسة إلى سابق عهدها، فهي مؤسسة قائمة على بناء جيل قادر على تحمل المسؤولية، يمتلك مقومات النّجاح والإبداع، قادر على خدمة نفسه ومجتمعه، وهذا يحتاج إلى وقفة جادة من كافة المعنيين، من: وزارة التربية والتعليم، ومديريات التربية، وصولًا للمدارس بمعلميها ومرشديها ومشرفيها...مروراً بمؤسسات المجتمع الاعتبارية من: جمعيات، ومجالس بلدية وقروية قادرة على توجيه البوصلة بالشّكل الصّحيح، فالمدرسة لم تعد مجرد جدران وحجرات، بل هي بنايات تحمل أبعادًا جمالية، ومرافق متعددة، ومجتمع متعاون، وأسرة تربويّة تمتلك الطّاقات الايجابيّة، وتدفع نحو رسم ملامح شخصية مؤثرة في بناء المجتمع، تتمثل بالطلبة، ولعلّ تقصير هذه المؤسسة عن القيام بدورها التّربويّ والتّعليميّ من شأنه تشكيل خطرٍ على الطالب الذي لن يكون لديه مستقبل ولا حتى طموح كما سيشكل ذلك خطرًا على المجتمع بتوجيه طاقاته بشكل لا يتناسب وأهدافه.

هذا وقد عبّرت العينة الطّلابيّة عن مشاعر الرّضى والرّاحة والحبّ والاحترام تجاه البيئة المدرسيّة بشقيها الماديّ والبشريّ، مع وجود رغبة في الوصول إلى الأفضل، حيث تراوحت تلك الدرجة بين 70-100%، وقد تقاطع هذا الشّعور مع شعور آخر حمل في طياته الحزن نتيجة لتصرفات بعض الأطراف التّربويّة غير المسؤولة والناتجة عن ضعف الخبرات تارة أو عن ضغوط العمل وتداعيات الظّروف التي يعيشها المجتمع تارةً أُخرى، وهذا بدوره يؤثر على مستوى الدّافعيّة والتّكيّف مع البيئة المدرسيّة، الأمر الذي دفع العينة الطلابيّة إلى التّأكيد على أهمية الدور الأسريّ في التفاعل الجيد مع المدرسة وأنشطتها، والدور الإرشاديّ والإداريّ في تصحيح ورسم مسار العمل التّربويّ والتّعليميّ بما يحقق الفائدة المنشودة.


     تلك الصّورة دفعتني إلى تقديم جملة من الاقتراحات من شأنها تعزيز معاني التّكيف مع البيئة المدرسيّة، لاسيما أننا نمر بظروف استثنائيّة، بدأت منذ العام المنصرم بجائحة كورونا والتّعليم الالكترونيّ وما يحمل من ثغرات، وابتعاد الطلبة عن المدرسة لفترات طويلة، ومن بين تلك الاقتراحات:
1-العمل على تهيئة المعلم/ة قبل الانخراط بسلك التّربية والتّعليم، حتى يكون مؤهلاً من النواحي المعرفيّة والسّلوكيّة والاجتماعيّة وحتى الادراكيّة...
2-ضرورة الاستفادة من خبرات العاملين في مجال التّخطيط والهندسة في تصميم وبناء المؤسسات التّعليميّة وما تحويه من مرافق ضمن أسلوب جديد بما يضمن التعامل الحسن والايجابي من قبل الطالب/ة مع البيئة المدرسيّة، وينمي مشاعر الحبّ والاحترام والود، إلى جانب تعزيز مظاهر النشاط والحيوية والمبادرة الهادفة لديه.
3-العمل على بناء جسور من المودة والمحبة بين أطراف العملية التّربويّة(معلم، ولي أمر، مدير...) حتى يتسنى لهم بناء طالب متزن مسؤول يحمل بذور الأمل والخير ومعاني العلم والمعرفة...
4-العمل على تفعيل دور المرشد التّربويّ باعتباره الأكثر قدرة على التواصل مع جميع الشّرائح التّربويّة، لاسيما أنّ دوره محوريّ، ولا يقتصر على الطالب، بل يمتد ليشمل كلّ الفئات المؤثرة في المنظومة التّعليميّة والتّربويّة من: معلم، ومدير، وولي أمر...
5-ضرورة الاهتمام بمشاعر وأحاسيس الطفل، والاستمرار في دعم صفات البراءة والخيريّة لديه، وهذا يتأتى من شراكة حقيقية، ومن أطراف تمارس أدوارها بموضوعية ومصداقية، فلا يكفي أن تكون أب أو أماً، بل يحتاج الطفل إلى أب ومربي وصديق، ولا يكفي أن تكون معلم، بل يحتاج الطفل إلى معلم وقدوة ومثال يحتذى به ...

فما يُغرس في الصغر يستمر في الكبر، ولعلّ كلمة وموقف يقوم به طرف تربويّ بقصد أو دون قصد يشكل نقطة تحول في حياة إنسان، وهذا ما لمسته من تلك المقابلات، التي حملت في طياتها الكثير من الإشارات والدلالات التي تحتاج إلى فهم عميق وإنسان مسؤول.

الكاتب : جهاد عثمان قبها
           كلية الدراسات العليا – جامعة النجاح الوطنية
           قسم علم النفس