الحدث التركي حافل بالرسائل المهمة التي تستحق الدراسة والاعتبار

(1)
لن ينسى منظر التركي الذي سجله شريط الفيديو حين خرج بسيارته في منتصف الليل وعرقل بها سير دبابة تابعة للانقلابيين، ولا ذلك الذي تمدد على الأرض أمام عجلات دبابة أخرى ليوقف تقدمها،  ولا أولئك الذين تجمعوا حول الدبابات والمدرعات واعتلوها رافعين الأعلام التركية، ومعلنين رفضهم للعملية الانقلابية. أما الحشود التي خرجت إلى الشوارع والميادين بثياب النوم وتلك التي تجمعت في المساجد، فإنها شكلت حالة استنفار شعبي نادر أغلب الظن أنه فاجأ الانقلابيين وأسهم في إحباط محاولتهم.

أما موقف الأحزاب الرئيسية الذي رفض المحاولة، وفي المقدمة منها تلك التي عارضت إردوغان وتصارعت مع ممثلي حزب العدالة والتنمية في البرلمان، فدلالته من الأهمية بمكان. إذ لا يكفي تفسير كل ما سبق أن يقال إنه يعبر من ناحية عن مدى شعبية إردوغان، كما أنه يعبر من ناحية ثانية عن حرص الأحزاب على استمرار العملية الديمقراطية. ذلك أن ثمة خلفية خاصة بالمجتمع التركي أزعم أنها تكمن وراء الاستنفار الجماهيري  ووقفة الأحزاب المناهضة للانقلاب. آية ذلك أن الأتراك وأحزابهم لهم خبرات عديدة ومريرة مع انقلابات العسكر وحكمهم.

إذ منذ أول انقلاب في عام ١٩٦٠ وخلال الانقلابات الثلاثة التالية (خلال السنوات ١٩٧١ و١٩٨٠ و١٩٩٧، إضافة إلى نصف الانقلاب الذي أطاح بحكومة نجم الدين أربكان زعيم حزب الرفاه الإسلامي)، فإنهم أدركوا أن الانقلابات العسكرية لا تدمر السياسة وتقتلها فحسب، لكنها أيضًا تضع الدولة علي عتبات الاستبداد والفاشية.

يضرب المثل في ذلك بانقلاب عام ١٩٨٠ الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين وكانت حصيلته كالتالي: اعتقال ٦٥٠ ألف شخص ــ أصدر أحكاما بالإعدام على ٥١٧ شخصا وتنفيذه في خمسين منهم ــ فصل ٣٠ ألف شخص من وظائفهم، وتجريد ١٤ ألفا من الجنسية التركية وترحيل ٣٠ ألفا إلى خارج البلاد ــ وفاة المئات تحت التعذيب وتعرض العشرات للاختفاء القسري ــ حبس عشرات الصحافيين ــ منع أكثر من ٩٠٠ فيلم.

(٢)

إن أي متابع لتاريخ تركيا الحديث يدرك أن الجيش له مكانته الجليلة في المجتمع التي تكاد ترفعه إلى  مرتبة التقديس، إذ إلى جانب أنه يطلق عليه جيش محمد (عليه الصلاة والسلام) فإن بعض المؤرخين يصفون الدولة العثمانية بأنها كانت «عسكرية جهادية» في المقام الأول. ثم إن دوره في إنقاذ الدولة من الهزيمة والانهيار في الحرب العالمية الأولى رفع عاليا مكانته وعمق من الاعتزاز به لدى الجميع.

إلا أن إنجازاته الكبيرة في الحرب دفاعًا عن الوطن ظلت في كفة وأداؤه في السياسة وإدارة البلد في كفة ثانية. والأولى بقيت في صالحه على طول الخط، أما الثانية فقد حولتها معاناة الخبرة التركية إلى خط أحمر، ولم يكن ذلك إقلالا من دور الجيش بطبيعة الحال، لكنه كان اقتناعا بأن خوضه في السياسة وتحوله إلى صانع لها بمثابة سحب من رصيده المقدر وتوريط له فيما لا يجيده. في هذا الصدد فإنه يحسب للرئيس رجب طيب إردوغانأنه أخرج الجيش من السياسة وأعاده إلى موقعه الطبيعي لكي يصبح خاضعا لها وليس صانعا لها.

" أضم صوتي إلى من قال إن إردوغان خرج من التجربة أكثر قوة وتمنى عليه أن يصبح أكثر ديمقراطية"

وإذ يسجل للرئيس إردوغان من الناحية التاريخية أنه رد للسياسة اعتبارها في تركيا، وطوى صفحة حكم العسكر بإعادتهم إلى موقعهم الطبيعي في حماية حدود الوطن، فإنه ينبغي أن يحسب للنخبة وللأحزاب السياسية وللجماهير التركية أنها ارتقت بوعيها على نحو ظهر جليًا في موقفها إزاء المحاولة الانقلابية، إذ يعلم كثيرون أن معارضة النخبة والأحزاب بوجه أخص تزايدت في الآونة الأخيرة، وأن التحفظات على سياسة الرئيس إردوغان تعالت مؤشراتها خلال تلك الفترة.


مع ذلك فإن خصوم الرجل وناقديه كانوا بين الذين خرجوا معارضين للانقلاب حين ذاع خبره مساء يوم الجمعة ١٥/ ٧ وليس دقيقًا القول بأن المظاهرات كلها كانت مؤيدة لإردوغان، لأن منها ما كان معارضًا له، لكنه رافضا لحكم العسكر ومؤيد للديمقراطية كما سبقت الإشارة. إذ أدركت الأحزاب والنخب المعارضة أن مخاصمة الرئيس لا ينبغي أن تعالج بتسليم الحكم للعسكر. وأن الذي جاء بانتخابات ديمقراطية يجب ألا يرحل أو ينحى إلا من خلال الانتخابات الديمقراطية، خصوصا أن خبرة السبعين سنة الأخيرة اقنعتهم بأن الوضع السياسي إذا كان سيئا فلا ينبغي له أن يعالج بما هو أسوأ.

فضلا عن أنهم لم يكونوا بحاجة لمن يقنعهم بأن حكم العسكر هو الأسوأ في تاريخهم السياسي، وأن الاستبداد على فرض وجوده ينبغي ألا يعالج باستدعاء الفاشية، لأن العور في أسوأ حالاته يظل أفضل من العمى. وتلك هي الرسالة الأهم في الحدث التركي.

(٣)
رغم أن الصورة لم تتبلور تمامًا أو لم يتح لنا أن نتعرف على خلفيات ما جرى، فإن القدر الذي ظهر منها إلى العلن يستدعي عدة ملاحظات أخرى في مقدمتها ما يلي:o إن حظوظ الانقلابات في تركيا تتراجع بمضي الوقت إذ من متابعة الانقلابات التي تتابعت منذ عام ١٩٦٠ نلاحظ أن الثلاثة الأولى تكللت بالنجاح بمعدل انقلاب كل عشر سنوات (١٩٦٠ ــ ١٩٧١ ــ ١٩٨٠) أما الرابع فقد وقع بعد ١٧ سنة (عام ١٩٩٧) ، وكان نصف انقلاب لم يسفر عن أي ضحايا، ومن ثم وصف بأنه انقلاب أبيض أو ما بعد حداثي. إذ اكتفى العسكر فيه بإجبار رئيس الوزراء نجم الدين أربكان على الاستقالة، ثم مارسوا عدة إجراءات قمعية ضد رموز التيار الإسلامي تراوحت بين المصادرة والاعتقال. أما المحاولة الخامسة والأخيرة فقد تمت بعد نحو عشرين عاما من الرابعة وباءت بالفشل تمامًا.

o إن ما جرى جاء دالا على أن التآمر على تركيا الديمقراطية لم يتوقف، وأن القوى المتربصة بالديمقراطية أو بالهوية الإسلامية للبلد لاتزال كامنة وتتحين الفرصة للانقضاض كلما وجدت ثغرة استطاعت النفاذ منها. ورغم أن توجيه الاتهام إلى فتح الله غولن المقيم في أميركا وجماعته التي وصفت بالتنظيم الموازي فإنه لم تتوافر لنا أدلة كافية تقنعنا بحقيقة الأطراف التي وقفت وراء المحاولة. ذلك الانقلاب على نظام قوي في بلد كبير مثل تركيا يتطلب تخطيطًا محكمًا تشارك فيه أطراف عدة في الداخل والخارج، وإلا تحول إلى مغامرة طائشة وحماقة كبري.

o إن الأحزاب التركية أثبتت حضورًا قويًا ورؤية رشيدة وثاقبة، والموقف المسؤول الذي اتخذته إزاء المحاولة الانقلابية اتسم بنضج يستحق الحفاوة والتقدير لو أثبتت أنها ليست مجرد لافتات بغير مضمون أو جمهور، كما أنها نجحت في تنحية خصومتها للرئيس إردوغان ونظامه جانبًا، وأعربت عن انحيازها للديمقراطية وللمصلحة العليا للبلد.

o إن الرئيس إردوغان الذي أعرب أكثر من مرة عن ضيقه بحملات وتسريبات مواقع التواصل الاجتماعي لم يجد وسيلة لمخاطبة الرأي العام التركي بعد استيلاء الانقلابيين علي التلفزيون الرسمي سوى باللجوء إلى تطبيق «فيس تايم»، أي أنه استخدم نفس الأسلوب الذي سبق أن لجأ إليه معارضوه لمناكفته.

o إن موقف الأوروبيين من المحاولة الانقلابية كان واضحًا فيه منذ وقت مبكر الانحياز إلى الديمقراطية، أما الموقف الأميركي فقد كان متراخيًا ومراوغًا في البداية ولكنه انحاز إلى جانب الديمقراطية والشرعية في تركيا حين بدا أن الانقلاب لم يسيطر تمامًا على السلطة في أنقرة.

(٤)

بقيت عندي كلمتان إحداها تتعلق بنا في العالم العربي. أما الثانية فتخص أسئلة المستقبل في تركيا. ذلك أن صدى الانقلاب في العالم العربي جاء كاشفًا لخرائطه السياسية وفاضحا في بعض جوانبه. ذلك أن المنابر المعبرة عن قوى الثورة المضادة والمعارضة للديمقراطية وللربيع العربي هللت لمحاولة استيلاء العسكر على السلطة، وسارعت إلى التبشير بنجاح الانقلاب. أما الإعلام المصري فقد كان موقفه في مجمله محزناً وبائسًا، عبر عن ذلك بعض مقدمي البرامج في القنوات التلفزيونية الذين لم يخفوا فرحتهم وشماتتهم. حتى أن أحدهم بدا مبتهجًا وبشر المشاهدين بأن محاولة استيلاء العسكر على السلطة هو ثورة وليست انقلابًا.

أما أغلب الصحف فقد أبرزت في عناوين طبعتها الثانية شيئا واحدا هو أن الجيش أطاح بإردوغان وهو ما عبرت عنه «الأهرام» و«المصري اليوم» و«الوطن» والأخيرة ذكرت في أحد عناوينها أن الرئيس التركي طلب اللجوء إلى ألمانيا. وحدها صحيفة «الشروق» لم تقع في الفخ وصاغت الخبر بأسلوب مهني ومحتشم، حين تحدثت في عنوانها الرئيسي عن «محاولة انقلاب في تركيا وإردوغان يعلن إحباطها». وكانت حصيلة تلك الإشارات دالة على أن وسائل الإعلام المصرية وبعض القنوات العربية شغلت بتصفية الحساب مع الرئيس إردوغان بأكثر مما شغلت برصد الحقائق كما تفاعلت على الأرض.


الكلمة الثانية تتعلق بسياسة الرئيس إردوغان في المرحلة المقبلة، ذلك أنني أفهم أن يحاسب الضالعين في المحاولة، وأن يوقع عليهم العقاب الذي يستحقونه لكنني تمنيت أن يتصرف باعتباره رئيسًا لدولة ديمقراطية وليس باعتباره أسدًا جريحًا. أعني أتمنى أن يحتكم إلى القانون وإلى قيم العدل ومبادئ حقوق الإنسان، لا أن يستسلم للانفعال ويعمد إلى الانتقام من معارضيه وملاحقتهم.

ورغم أن شبهات كثيرة مثارة حول دور معارضه اللدود فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، إلا أنني لم أسترح إلى المسارعة لاتهامه دون دليل وقبل أن تثبت التحقيقات ذلك. وتساورني الشكوك ذاتها إزاء القرارات المتعجلة التي أدت مثلا إلى فصل ٢٧٠٠ قاضٍ من وظائفهم بسبب الشبهات التي أثيرت حول موقفهم من العملية الانقلابية. ولأن الوعي بقيمة الديمقراطية كان من العوامل المهمة التي أسهمت في إفشال الانقلاب فإنني أضم صوتي إلى من قال إن إردوغان خرج من التجربة أكثر قوة وتمنى عليه أن يصبح أكثر ديمقراطية.

("الشروق")