ما حدث في 25 يناير 2011 كان مؤامرة دبرها الأمريكان، واختطفها الإخوان ولم ينقذنا من براثنها سوى انتفاضة الجيش التي باركتها يد الرحمن. هذه خلاصة الرسالة التي تلقيناها في مصر خلال الأسبوع الماضي، حيث جرى بثها على الهواء ليحاط الجميع علما بها، القاصي منهم والداني. وبهذا الاكتشاف المثير زالت الغشاوة من على أعين المصريين والعرب، وآن لهم أن يدركوا أنهم عاشوا ثلاثة أعوام مضللين، يتخبطون بين الوهم والجهل والغباء. وهذا الكلام ليس من عندي، ولكن مفرداته ترددت أكثر من مرة خلال الأسبوع، كان آخرها يوم الخميس الماضي (14/8)، حيث وصف ما اعتبرناه «ثورة» بأنه ليس مؤامرة عادية ولكن محرر جريدة «المصري اليوم» اعتبرها «مؤامرة القرن»، التي دبرها «مجرمون» ما يزالون طلقاء ويستحقون العقاب.حدث ذلك بمناسبة الشهادات التى استمعت إليها محكمة جنايات القاهرة في ختام نظرها لقضية قتلى متظاهرى 25 يناير 2011 التي وصفتها وسائل الإعلام بأنها «محاكمة القرن». وهي الشهادات التي تقدم بها المحامون والمتهمون الذين كان على رأسهم الرئيس السابق حسني مبارك ووزير داخليته حبيب العادلي وأركان وزارته الذين حاولوا قمع المظاهرات في بداية عام 2011.حملت إلينا المحاكمة أكثر من مفاجأة، فقد ظللنا نعتقد أن محاكمة القرن سوف تحاسب مبارك ورجاله على قتل أكثر من ألف شخص من الذين خرجوا انتصارا للثورة ومطالبين بإسقاط النظام، وكان معلوما للكافة أن كل واحد من المتهمين له سجله الحافل بالمفاسد والتنكيل وتزوير إرادة الشعب، لكننا فوجئنا بأن المحاكمة الحقيقية ليست لهؤلاء، ولكنها للثورة ذاتها التي حدثت آنذاك وأدت إلى خلع مبارك وإسقاط نظامه، وبذلك تحول المتهمون إلى مدعين، وقدم رجال مبارك وأعوان العادلي أنفسهم بأنهم وطنيون شرفاء وزهاد أفنوا أعمارهم في خدمة الوطن والمواطنين، حتى مبارك ذاته الذي أمضى 30 سنة في الحكم كان زاهدا فيه.ليس ذلك فحسب، وإنما اكتشفنا من خلال المرافعات والشهادات أن المطلوب إقناع المحكمة والرأي العام بأن المجرمين الحقيقيين هم الذين قاموا بالثورة، وقد استغل هؤلاء جهلنا وغباءنا وباعوا لنا الوهم الكبير الذي سموه ثورة (الكلمات أوردها محرر المصري اليوم في مقالته السابقة الذكر)، لذلك فإن المحرر المذكور اعتبر شهادة وزير الداخلية بحق هؤلاء «بلاغات يجب على النائب العام أن يتحرك بشأنها فورا».من المفاجآت التي لم تخطر لنا على بال أن يبث كل ذلك على الهواء مباشرة من قاعة المحكمة، لكي تصل الرسالة إلى أوسع دائرة ممكنة من المتلقين. وقرار البث ليس اجتهادا من جانب المحكمة أو إحدى القنوات الخاصة التى تحول معظمها إلى أبواق ومنابر لتسويق نظام مبارك والترويج للثورة المضادة، ولكنه قرار سياسي بالدرجة الأولى. حتى إذا كان البث قد تم من خلال قناة واحدة، يملكها أحد رجال نظام مبارك. وقد استوقفت الواقعة أحد الكتاب السياسيين المحترمين (الدكتور حمد عبدربه مدرس العلوم السياسية)، فكتب مقالة ناقدة لما حدث ومتشككة في خلفياتها تساءل فيها قائلا: لماذا نسي الكلام الذي برر به حظر البث التليفزيوني في عام 2012، وقيل في صدده إن من شأن ذلك أن يؤثر في القضاء والرأى العام؟ ولماذا لا نرى محاكمات الإخوان ونشطاء الثورة المصرية وهم يدافعون عن أنفسهم على شاشات التليفزيون أيضا؟ وألا يعد ما جرى تعبيرا عن التحيز لصالح مبارك ونظامه وألا يؤثر ذلك في الرأي العام وعلى القاضي؟ (جريدة التحرير 12/8).
من المفاجآت أيضا أن خلايا نظام مبارك النائمة في أوساط النخبة ودوائر الإعلام استيقظت في الأجواء الراهنة، وشددت من حملة تجريح ثورة يناير، ووصمها بتهمة التآمر على الدولة المصرية لحساب الأمريكان والإخوان.أخيرا.. لابد أن نلاحظ أن الشهادات والمرافعات التي جرى الترويج لها أثناء المحاكمة لم تستهدف فقط سحب شرعية ثورة يناير من خلال التشكيك فيها، ولكنها استهدفت أيضا نسخ تقرير لجنة تقصي الحقائق التي شكلت في العام الأول للثورة برئاسة المستشار عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى، وضمت نخبة من فقهاء القانون والخبراء. وهو التقرير الذي يعد أوفى تحقيق لوقائع الثورة، وقد حمل الشرطة المسؤولية الكاملة عن قتل الثوار وقنصهم. ولم يشر بكلمة إلى سيناريو المؤامرة أو دور الإخوان أو حماس أو حزب الله. أو غير ذلك من الافتراءات التي جرى الترويج لها في وقت لاحق لنفي التهمة عن الشرطة. وكان ذلك هو السبب في دفن التقرير وتجاهله؛ لإفساح المجال لصياغة جديدة لتاريخ تلك المرحلة على النحو الذي جرى لاحقا ولاحظناه خصوصا في القضايا التى برئ فيها ضباط الشرطة، وفي مختلف حالات التعبئة الإعلامية التي تكفلت بها أجهزة التوجيه المعنوي. كما برز بقوة فيما سموه محاكمة القرن التي أزعم أنها تحولت إلى فضيحة القرن. بل لعلي أقول إن تقرير تقصي الحقائق الذي أعده المستشار قورة كان القراءة النزيهة لأحداث الثورة، أما السيناريو الأخير الذي جرى بثه وتسويقه فهو قراءة الثورة المضادة.